الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)} قيل: سبب النزول أن رجلاً من قريش قيل هو أُبَيّ بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه، وقال للرسول: أيبعث هذا؟ وكذب وسخر، وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم. كقول الفرزدق: فسيف بني عبس وقد ضربوا به *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله نبا بيدي، ورقاء وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، أو للجنس الكافر المنكر للبعث أو المعنى أُبَيّ بن خلف، أو العاصي بن وائل، أو أبو جهل، أو الوليد بن المغيرة أقوال. وقرأ الجمهور {أئذا} بهمزة الاستفهام. وقرأت فرقة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إذا بدون همزة الاستفهام. وقرأ الجمهور {لسوف} باللام. وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف، فعلى قراءته تكون إذاً معمولاً لقوله سأخرج لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله، على أن فيه خلافاً شاذاً وصاحبه محجوج بالسماع. قال الشاعر: فلما رأته آمناً هان وجدها *** وقالت أبونا هكذا سوف يفعل فهكذا منصوب بفعل وهو بحرف الاستقبال. وحكى الزمخشري أن طلحة بن مصرف قرأ لسأخرج، وأما على قراءة الجمهور وما نقله الزمخشري من قراءة طلحة فاللام لام الابتداء فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فيقدر العالمل محذوفاً من معنى {لسوف أخرج} تقديره إذا ما مت أبعث. وقال الزمخشري: فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلاّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضمحل عنها معنى التعريف انتهى. وما ذكر من أن اللام تعطي معنى الحال مخالف فيه، فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال، وأما قوله كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلاّ على مذهب من يزعم أن الأصل فيه إله، وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا إن أصله إله وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانت للعوض من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذ. وقال ابن عطية: واللام في قوله {لسوف} مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلاً قال للكافر: إذا مت يا فلان لسوف تخرج حياً، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد، وكرر اللام حكاية للقول الأول انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير ولا أن هذا حكاية لقول تقدم، بل هذا من الكافر استفهام فيه معنى الجحد والإنكار، ومن قرأ إذا ما أن تكون حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليه، وإما أن يكون إخباراً على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك إذ لم يرد به مطابقة اللفظ للمعنى. وقرأ الجمهور {أُخرج} مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن وأبو حيوة مبنياً للفاعل. وقال الزمخشري: وإيلاؤه أي وإيلاء الظرف حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم فهو كقولك للمسيء إلى المحسن أحين تمت عليك نعمة فلأن أسأت إليه. وقرأ أبو بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبو حاتم ومن السبعة عاصم وابن عامر ونافع {أو لا يذكر} خفيفاً مضارع ذكر. وقرأ باقي السبعة بفتح الذال والكاف وتشديدهما أصله يتذكر أدغم التاء في الذال. وقرأ أُبَيّ يتذكر على الأصل. قال الزمخشري: الواو عاطفة لا يذكر على يقول، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف انتهى. وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو فيقر الهمزة على حالها، وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة. {أنّا خلقناه من قبل} أي أنشأناه واخترعناه من العدم الصرف إلى الوجود، فكيف ينكر النشأة الثانية وهذه الحجة في غاية الاختصار والإلزام للخصم، ويسمى هذا النوع الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وقد تكرر هذا الاحتجاج في القرآن: {ولم يك شيئاً} إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه يدل على أن المعدوم لا يسمى شيئاً. وقال أبو علي الفارسي: {ولم يك شيئاً} موجود أو هي نزعة اعتزالية والمحذوف المضاف إليه {قبل} في التقدير قدره بعضهم {من قبل} بعثه، وقدره الزمخشري {من قبل} الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه انتهى. ولما أقام تعالى الحجة الدامغة على حقية البعث أقسم على ذلك باسمه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتفخيماً، وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيماً لحقه ورفعاً منه كما رفع من شأن السماء والأرض بقوله {فورب السماء والأرض إنه لحق} والواو في {والشياطين} للعطف أو بمعنى مع يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وهذا إذا كان الضمير في {لنحشرنهم} للكفرة وهو قول ابن عطية وما جاء بعد ذلك فهو من الإخبار عنهم وبدأ به الزمخشري، والظاهر أنه عام للخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ولم يفرق بين المؤمنين والكافرين كما فرق في الجزاء، وأحضروا جميعاً وأوردوا النار ليعاين المؤمنون الأهوال التي نجوا منها فيسروا بذلك ويشمتوا بأعدائهم الكفار، وإذا كان الضمير عاماً فالمعنى يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التوافق للحساب قبل الوصول إلى الثواب والعقاب. وقال تعالى في حالة الموقف {وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها} و{جثياً} حال مقدرة. وعن ابن عباس: قعوداً، وعنه جماعات جماعات جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة. وقال مجاهد والحسن والزجّاج: على الركب. وقال السدّي قياماً على الركب لضيق المكان بهم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {جثياً} و{عتياً} و{صلياً} بكسر الجيم والعين والصاد والجمهور بضمها {ثم لننزعن} أي لنخرجن كقوله {ونزع يده} وقيل: لنرمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم، والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب. قال أبو الأحوص: يبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً. وقال الزمخشري: يمتاز من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب فقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم، والضمير في {أيهم} عائد على المحشورين المحضرين. وقرأ الجمهور {أيهم} بالرفع وهي حركة بناء على مذهب سيبويه، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة: و{أشد} خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة لأيهم وحركة إعراب على مذهب الخليل ويونس على اختلاف في التخريج. و{أيهم أشد} مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل أي الذين يقال فيهم {أيهم أشد}. وفي موضع نصب فيعلق عنه {لننزعن} على مذهب يونس، والترجيح بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعاً على من كل شيعة كقوله {ووهبنا لهم من رحمتنا} أي {لننزعن} بعض {كل شيعة} فكأن قائلاً قال: من هم؟ فقيل إنهم أشد {عتياً} انتهى. فتكون {أيهم} موصولة خبر مبتدأ محذوف، وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين، وقرن الخليل تخريجه بقول الشاعر: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل *** فأبيت لا حرج ولا محروم أي فأبيت يقال فيّ لا حرج ولا محروم، ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في هذه المسألة. قال سيبويه: ويلزم على هذا أن يجوز اضرب السارق الخبيث الذي يقال له قيل، وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة. ومذهب الكسائي أن معنى {لننزعن} لنناذين فعومل معاملته فلم تعمل في أي انتهى. ونقل هذا عن الفراء. قال المهدوي: ونادى تعلق إذا كان بعده جملة نصب فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ. وقال المبرد: {أيهم} متعلق بشيعة، فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا {أيهم أشد} كأنهم يتبادرون إلى هذا، ويلزم أن يقدر مفعولاً {لننزعن} محذوفاً وقدر أيضاً في هذا المذهب من الذين تشايعوا {أيهم} أي من الذين تعاونوا فنظروا {أيهم أشد}. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي أن التشايع هو التعاون. وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول: في {أيهم} معنى الشرط، تقول: ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا فعلى هذا يكون التقدير إن اشتد عتوهم أو لم يشتد. وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش {أيهم} بالنصب مفعولاً بلننزعنّ، وهاتان القراءتان تدلان على أن مذهب سيبويه أنه لا يتحتم فيها البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وقد نقل عنه تحتم البناء وينبغي أن يكون فيه على مذهبه البناء والإعراب. قال أبو عمرو الجرمي: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول لأضربن أيهم قائم بالضم بل بنصبها انتهى. وقال أبو جعفر النحاس: وما علمت أحداً من النحويين إلاّ وقد خطأ سيبويه، وسمعت أبا إسحاق يعني الزجاج يقول: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلاّ في موضعين هذا أحدهما. قال: وقد أعرب سيبويه أياً وهي مفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟. و {على الرحمن} متعلق بأشد. و{عتياً} تمييز محول من المبتدإ تقديره {أيهم} هو عتوه {أشد على الرحمن} وفي الكلام حذف تقديره فيلقيه في أشد العذاب، أو فيبدأ بعذابه ثم بمن دونه إلى آخرهم عذاباً. وفي الحديث: " إنه تبدو عنق من النار فتقول: إني أمرت بكل جبار عنيد فتلتقطهم " وفي بعض الآثار: «يحضرون جميعاً حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر». قال ابن عباس: {عتياً} جراءة. وقال مجاهد: فجراً. وقيل: افتراء بلغة تميم. وقيل: {عتياً} جمع عات فانتصابه على الحال. {ثم لنحن أعلم} أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً غير موضعه، لأنا قد أحطنا علماً بكل واحد فأولى بصلى النار نعلمه. قال ابن جريج: أولى بالخلود. وقال الكلبي {صلياً} دخولاً. وقيل: لزوماً. وقيل: جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى. والواو في قوله {وإن منكم} للعطف. وقال ابن عطية: {وإن منكم إلاّ واردها} قسم والواو تقتضيه، ويفسره قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاّ تحلة القسم " انتهى. وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلاّ إذا كان الجواب باللام أو بأن، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار، ولا يجوز ذلك إلاّ إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم: نعم السير على بئس العير، أي على عير بئس العير. وقول الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه *** أي برجل نام صاحبه. وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه. وقرأ الجمهور {منكم} بكاف الخطاب، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله {ولما ورد ماء مدين} ووردت القافلة البلد ولم تدخله، ولكن قربت منه أو وصلت إليه. قال الشاعر: فلما وردن الماء زرقاً جمامة *** وضعن عصى الحاضر المتخيم وتقول العرب: وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم، وليس يراد به الماء بعينه. وقيل: الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون الورود في حقهم الدخول، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا لشناعة قولهم إن المؤمنين يدخلون النار وإن لم تضرهم. وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة وإن منهم بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بيِّن، واسم {كان} مضمر يعود على الورود أي كان ورودهم حتماً أي واجباً قضي به. وقرأ الجمهور {ثم} بحرف العطف وهذا يدل على أن الورود عام. وقرأ عبد الله وابن عباس وأبيّ وعليّ والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب ثَمَّ بفتح الثاء أي هناك، ووقف ابن أبي ليلى ثمه بهاء السكت. وقرأ الجمهور: {ننجي} بفتح النون وتشديد الجيم. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم. وقرأت فرقة نجي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة. وقرأ علي: ننحي بحاء مهملة مضارع نحى، ومفعول {اتقوا} محذوف أي الشرك والظلم هنا ظلم الكفر. {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه، كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس، فقالوا للمؤمنين: {أي الفريقين خير مقاماً} أي منزلاً وسكناً {وأحسن ندياً} ولما أقام الحجة على منكري البعث وأتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا، وذلك عندهم يدل على كرامتهم على الله. وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن يتلي بالياء والجمهور بالتاء من فوق كان المؤمن يتلو على الكافر القرآن وينوه بآيات النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول الكافر: إنما يحسن الله لأحب الخلق إليه وينعم على أهل الحق، ونحن قد أنعم علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء، ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة. ومعنى {بينات} مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني أو ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين. و {بينات} حال مؤكدة لأن آياته تعالى لا تكون إلاّ بهذا الوصف دائماً. وقرأ الجمهور {مقاماً} بفتح الميم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمر وبضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدراً أو موضع قيام أو إقامة، وانتصابه على التمييز. ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم واتعاظاً لهم إن كانوا ممن يتعظ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل. و{من قرن} تبيين لكم و{كم} مفعول بأهلكنا. وقال الزمخشري: و{هم أحسن} في محل النصب صفة لكم. ألا ترى أنك لو تركت {هك} لم يكن لك بد من نصب {أحسن} على الوصفية انتهى. وتابعه أبو البقاء على أن {هم أحسن} صفة لكم، ونص أصحابنا على أن {كم} الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها، فعلى هذا يكون {هم أحسن} في موضع الصفة لقرن، وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه، ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربياً فصار كلفظ جميع. قال {لما جميع لدينا محضرون} وقال: نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وتقدم تفسير الأثاث في سورة النحل. وقرأ الجمهور {ورئياً} بالهمزة من رؤية العين فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقي. وقال ابن عباس: الرئي المنظر. وقال الحسن: معناه صوراً. وقال الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيواب وابن سعدان وابن ذكوان وقالون ورياً بتشديد الياء من غير همز، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر سهلت همزته بإبدالها ياء ثم أدغمت الياء في الياء، واحتمل أن يكون من الريّ ضد العطش لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحن، كماله منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقابل. وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش عن عاصم وحميد {ورئياً} بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا، وكأنه من راء. قال الشاعر: وكل خليل رآني فهو قائل *** من أجل هذا هامة اليوم أو غد وقرئ ورياءً بياء بعدها ألف بعدها همزة، حكاها اليزيدي وأصله ورئاء من المراءاة أي يرى بعضهم بعضاً حسنه. وقرأ ابن عباس، فيما روي عنه طلحة ورياً من غير همز ولا تشديد، فتجاسر بعض الناس وقال هي لحن وليس كذلك بل لها توجيه بأن تكون من الرواء، وقلب فصار {ورئياً} ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء وحذفت، أو بأن تكون من الريّ وحذفت إحدى الياءين تخفيفاً كما حذفت في لا سيما، والمحذوفة الثانية لأنها لام الكلمة لأن النقل إنما حصل للكلمة بانضمامها إلى الأولى فهي أولى بالحذف. وقرأ ابن عباس أيضاً وابن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي وزياً بالزاي مشدد الياء وهي البزة الحسنة، والآلات المجتمعة المستحسنة.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} {فليمدد} يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء، وكان المعنى الأضل منا ومنكم مدّ الله له، أي أملى له حتى يؤول إلى عذابه. وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل، ويحتمل أن يكون خبراً في المعنى وصورته صورة الأمر، كأنه يقول: من كان ضالاً من الأمم فعادة الله له أنه يمدد له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة. وقال الزمخشري: أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك، وإنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} أو كقوله {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} والظاهر أن {حتى} غاية لقوله {فليمدد} والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم فيها إلى أن يعاينوا العذاب بنصرة الله المؤمنين أو الساعة ومقدماتها. وقال الزمخشري: في هذه الآية وجهان أحدهما أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما أي قالوا {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً} {حتى إذا رأوا ما يوعدون} أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين {إما العذاب} في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم، وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً، وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم {شر مكاناً وأضعف جنداً} لا {خير مقاماً وأحسن ندياً} وأن المؤمنين على خلاف صفتهم. انتهى هذا الوجه وهو في غاية البعد لطول الفصل بين قوله قالوا: {أي الفريقين} وبين الغاية وفيه الفصل بجملتي اعتراض ولا يجيز ذلك أبو علي. قال الزمخشري: والثاني أن يتصل بما يليها فذكر نحواً مما قدمناه، وقابل قولهم خير مكاناً بقوله {شر مكاناً} وقوله {وأحسن ندياً} بقوله {وأضعف جنداً} لأن الندي هو المجلس الجامع لوجوه القوم والأعوان، والأنصار والجند هم الأعوان، والأنصار و{إما العذاب وإما الساعة} بدل من ما المفعولة برأوا. و{من} موصولة مفعولة بقوله {فسيعلمون} وتعدى إلى واحد واستفهامية، والفعل قبلها معلق والجملة في موضع نصب. ولما ذكر إمداد الضال في ضلالته وارتباكه في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذلك بزيادة هدى للمهتدي وبذكر {الباقيات} التي هي بدل من تنعمهم في الدنيا الذي يضمحل ولا يثبت. و{مرداً} معناه مرجعاً وتقدم تفسير {الباقيات الصالحات} في الكهف. وقال الزمخشري: {يزيد} معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في الضلالة مداً ويمد له الرحمن {ويزيد} أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه انتهى. ولا يصح أن يكون {ويزيد} معطوفاً على موضع {فليمدد} سواء كان دعاء أم خبراً بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر إن كانت {من} موصولة أو في موضع الجواب إن كانت {من} شرطية، وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ أو جملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على الخبر خبر، والمعطوف على جملة الجزاء جزاء، وإذا كانت أداة الشرط اسماً لا ظرفاً تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقول مقامه، وكذا في الجملة المعطوفة عليها. وقال الزمخشري: هي {خير} {ثواباً} من مفاخرات الكفار {وخير مرداً} أي وخير مرجعاً وعاقبة أو منفعة من قولهم ليس لهذا الأمر مرد وهل يرد مكاني زيداً. فإن قلت: كيف قيل خير ثواباً كان لمفاخراتهم ثواباً حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه؟ قلت: كأنه قيل ثوابهم النار على طريقة قوله فاعتبوا بالصيلم. وقوله: شجعاء جربها الذميل تلوكه *** أصلاً إذا راح المطي غراثاً وقوله: تحية بينهم ضرب وجيع *** ثم بنى عليه خير ثواباً وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخبر كان لمفاخرهم شركاء فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم يقولون: الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده انتهى. {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} نزلت في العاصي بن وائل عمل له خباب بن الأرث عملاً وكان قيناً، فاجتمع له عنده دين فتقاضاه فقال: لا أنصفك حتى تكفر بمحمد، فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك. فقال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت؟ فقال خباب: نعم، قال: فائت إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك. وقال الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة وقد كانت للوليد أيضاً أقوال تشبه هذا الغرض، ولما كانت رؤية الأشياء سبيلاً إلى الإحاطة بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، والفاء للعطف أفادت التعقيب كأنه قيل: أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر عقيب قصة أولئك، والآيات: القرآن والدلالات على البعث. وقرأ الجمهور {ولداً} أربعتهن هنا، وفي الزخرف بفتح اللام والواو ويأتي الخلاف في نوح. وقرأ الأعمش وطلحة والكسائي وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني بضم الواو وإسكان اللام، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى على الجنس لا ملحوظاً فيه الإفراد وإن كان مفرد اللفظ، وعلى هذه القراءة فقيل هو جمع كأسد وأسد، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر: ولقد رأيت معاشراً *** قد ثمروا مالاً وولداً وقيل: هو مرادف للولد بالفتحتين واحتجوا بقوله: فليت فلاناً كان في بطن أمه *** وليت فلاناً كان ولد حمار وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر بكسر الواو وسكون اللام والهمزة في اطلع للاستفهام، ولذلك عادلتها {أم}. وقرئ بكسر الهمزة في الابتداء وحذفها في الوصل على تقدير حذف همزة الاستفهام لدلالة {أم} عليها كقوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان *** يريد أبسبع، وجاء التركيب في أرأيت على الوضع الذي ذكره سيبويه من أنها تتعدى لواحد تنصبه، ويكون الثاني استفهاماً فأطلع وما بعده في موضع المفعول الثاني لأرأيت، وما جاء من تركيب أرأيت بمعنى أخبرني على خلاف هذا في الظاهر ينبغي أن يرد إلى هذا بالتأويل. قال الزمخشري: {أطلع الغيب} من قولهم: أطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه واطلع الثنية. قال جرير: لاقيت مطلع الجبال وعوراً *** وتقول: مر مطلعاً لذلك الأمر أي عالياً له مالكاً له، ولاختيار هذه الكلمة شأن تقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار، والمعنى أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلاّ بأحد هذين الطريقين، إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إلى ذلك. والعهد. قيل كلمة الشهادة. وقال قتادة: هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول. وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك. و{كلا} ردع وتنبيه على الخطأ الذي هو مخطئ فيما تصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه. وقرأ أبو نهيك {كلا} بالتنوين فيهما هنا وهو مصدر من كلّ السيف كلاً إذا نبا عن الضريبة، وانتصابه على إضمار فعل من لفظه وتقديره كلوا كلاً عن عبادة الله أو عن الحق. ونحو ذلك، وكنى بالكتابة عن ما يترتب عليها من الجزاء. فلذلك دلت السين التي للاستقبال أي سنجازيه على ما ما يقول. وقال الزمخشري: فيه وجهان. أحدهما: سيظهر له ونعلمه أنّا كتبنا قوله على طريقه قوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ *** أي تبين وعلم بالانتساب أني لست ابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك يعني أنه لا يبخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان، واستأخر فجردها هنا لمعنى الوعيد انتهى. وقرأ الجمهور {سنكتب} بالنون والأعمش بياء مضمومة والتاء مفتوحة مبنياً للمفعول، وذكرت عن عاصم {ونمد} أي نطول له {من العذاب} الذي يعذب به المستهزئون أو نزيده من العذاب ونضاعف له المدد. وقرأ عليّ بن أبي طالب {ونمد له} يقال مده وأمده بمعنى {ونرثه ما يقول} أُي نسلبه المال والولد فنكون كالوارث له. وقال الكلبي: نجعل ما يتمنى من الجنة لغيره. وقال أبو سهيل: نحرمه ما يتمناه من المال والولد ونجعله لغيره. قال الزمخشري: ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالاً وولداً، وبلغت به أشعبيته أن تألّى على الله في قوله {لأوتين} لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتألَّ على الله يكذبه فيقول الله عز وعلا: هب أنّا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة {ويأتينا فرداً} غداً بلا مال ولا ولد كقوله تعالى {ولقد جئتمونا فرادى} الآية فما يجدي عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حياً، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله {ويأتينا} رافضاً له {منفرداً} عنه غير قائل له انتهى. وقال النحاس: {ونرثه ما يقول} معناه نحفظه عليه للعاقبة ومنه العلماء ورثة الأنبياء أي حفظة ما قالوه انتهى. و{فرداً} تتضمن ذلته وعدم أنصاره، و{يقول} صلة {ما} مضارع، والمعنى على الماضي أي ما قال. والضمير في {واتخذوا} لعبادة الأصنام وقد تقدم ما يعود عليه وهم الظالمون في قوله {ونذر الظالمين} فكل ضمير جمع ما بعده عائد عليه إن كان مما يمكن عوده عليه، واللام في {ليكونوا} لام كي أي {ليكونوا} أي الآلهة {لهم عزاً} يتعززون بها في النصرة والمنفعة والإنقاذ من العذاب. {كلا} قال الزمخشري: {كلا} ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك {كلا سيكفرون بعبادتهم} أي سيجحدون {كلا سيكفرون بعبادتهم} كقولك: زيد مررت بغلامه وفي محتسب ابن جنيّ {كلا} بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والإعتقاد كلاً، ولقائل أن يقول إن صحت هذه الرواية فهي {كلا} التي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريراً انتهى. فقوله وقرأ ابن نهيك الذي ذكر ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية وأبو نهيك بالكنية وهو الذي يحكى عنه القراءة في الشواذ وأنه قرأ {كلا} بفتح الكاف والتنوين وكذا حكاه عنه أبو الفتح. وقال ابن عطية وهو يعني {كلا} نعت للآلهة قال: وحكى عنه أي عن أبي نهيك أبو عمر والداني {كلا} بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه {سيكفرون} تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه. وأما قول الزمخشري ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد لأنه قال إنها التي للردع، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نوناً وتشبيهه بقواريراً ليس بجيد لأن قواريراً اسم رجع به إلى أصله، فالتنوين ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف. وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز؟ قولان، ومنقول أيضاً أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة. وذكر الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ كل بضم الكاف ورفع اللام ورفعه على الابتداء والجملة بعده الخبر، وتقدم ظاهر وهو الآلهة وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن الضمير في {سيكفرون} عائد على أقرب مذكور محدث عنه. فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم كما قال: {وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} وفي آخرها {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} وتكون {آلهة} هنا مخصوصاً بمن يعقل، أو يجعل الله للآلهة غير العاقلة إدراكاً تنكر به عبادة عابديه. ويجوز أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا كما قالوا {والله ربنا ما كنا مشركين} لكن قوله {ويكونون} يرجح القول الأول لاتساق الضمائر لواحد، وعلى القول الآخر يختلف الضمائر إذ يكون في {سيكفرون} للمشركين وفي {يكونون} للآلهة. ومعنى {ضداً} أعواناً قاله ابن عباس. وقال الضحاك: أعداءً. وقال قتادة: قرناء. وقال ابن زيد: بلاءً. وقال ابن عطية: معناه يجيئهم منه خلاف ما كانوا أمّلوه فيؤول بهم ذلك إلى ذلة ضد ما أملوه من العز، فالضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد. وقال الزمخشري: والضد العون وحد توحيد وهم يد على من سواهم لإتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم، ومعنى كونهم عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)} {أرسلنا} معناه سلطناً أو لم نحل بينهم وبينهم مثل قوله {نقيض له شيطاناً} وتعديته بعلى دليل على أنه تسليط و{تؤزهم} تحركهم إلى الكفر. وقال قتادة: تزعجهم. وقال ابن زيد: تشليهم. وقال الزمخشري: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات، والمعنى خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم، والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة من الكفار وأقاويلهم. عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلاّ أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ونحوه قوله تعالى {ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار} انتهى. وقيل {نعد} أعمالهم لنجازيهم. وقيل: آجالهم فإذا جاء أحللنا العقوبة بهم. وقيل: أيامهم التي سبق قضاؤنا أن نمهلهم إليها. وقيل: أنفاسهم، وانتصب {يوم} باذكر أو احذر مضمرة أو على تقدير يكون ذلك جواباً لسؤال مقدر تقديره متى يكون ذلك أو سيكفرون بعبادتهم أو بيكونون عليهم ضداً أو معنى بعداً، وتضمن العدّ والإحصاء معنى المجازاة، أو {يوم نحشر} ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو بلا يملكون، وكلها مقول في نصب {يوم} والأوجه الأخير. وعدى {نحشر} بإلى {الرحمن} تعظيماً لهم وتشريفاً. وذكر صفة الرحمانية التي خصهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر، فجاءت لفظة {الرحمن} مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم، ولفظ السوق فيه إزعاج وهو إن عدِّي بإلى جهنم تفظيعاً لهم وتبشيعاً لحال مقرهم. ولفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عنده. وعن عليّ: على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سرجها ياقوت. وعنه أيضاً إنهم يجيئون ركباناً على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد. وروى عمرو بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن، روى أنه يركب كل أحد منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم. والظاهر أن هذه الوفادة بعد انقضاء الحساب وأنها النهوض إلى الجنة كما قال {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} وشبهوا بالوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلاً وليست وفادة حقيقية لأنها تتضمن الإنصراف من الموفود عليه، وهؤلاء مقيمون أبداً في ثواب ربهم وهو الجنة والورد العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء. قال الراجز: ردي ردي ورد قطاة صماً *** كدرية أعجبها برد الماء ولما كان من يرد الماء لا يرده إلاّ لعطش، أطلق الورد على العطاش تسمية للشيء بسببه. وقرأ الحسن والجحدري يحشر المتقون ويساق المجرمون مبنياً للمفعول، والضمير في {لا يملكون} عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه، والاستثناء متصل و{من} بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء {ولا يملكون} استئناف إخبار. وقيل: موضه نصب على الحال من الضمير في {لا يملكون} ويكون عائداً على المجرمين. والمعنى غير مالكين أن يشفع لهم، ويكون على هذا الاستثناء منقطعاً. وقيل: الضمير في {لا يملكون} عائد على المتقين والمجرمين، والاستثناء متصل. وقيل: عائد على المتقين، واتخاذ العهد هو العمل الصالح الذي يحصل به في حيِّز من يشفع. وتظافرت الأحاديث على أن أهل العلم والصلاح يشفعون فيشفعون. وفي الحديث: «إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته أكثر من بني تميم» وقال قتادة: كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين. وقال بعض من جعل الضمير للمتقين: المعنى لا يملك المتقون {الشفاعة} إلاّ لهذا الصنف، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني {لا يملكون الشفاعة لأحد إلاّ من اتخذ} فيكون في موضع نصب كما قال: فلم ينج إلاّ جفن سيف ومئزرا *** أي لم ينج شيء إلا جفن سيف. وعلى هذه الأقوال الواو ضمير. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون يعني الواو في {لا يملكون} علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث، والفاعل من {اتخذ} لأنه في معنى الجمع انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميراً. وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة. وأيضاً قالوا: والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلاّ بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلاّ بسماع. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلاّ شفاعة من {اتخذ}. والعهد هنا. قال ابن عباس: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. وفي الحديث: «من قال: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله كان له عند الله عهد» وقال السدي: العهد الطاعة. وقال ابن جريج: العمل الصالح. وقال الليث: حفظ كتاب الله. وقيل: عهد الله إذنه لمن شاء في الشفاعة من عهد الأمير إلى فلان بكذا، أي أمره به أي لا يشفع إلاّ المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. ويؤيده {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن} {لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم {لا يملكون الشفاعة} إلاّ العصاة المؤمنون فإنهم سيشفع فيهم، فيكون الاستثناء متصلاً. وفي الحديث: «لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلاّ الله، فيقول: يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي» انتهى. وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد. وقال ابن عطية أيضاً: ويحتمل أن يراد بمن اتخذ محمد عليه الصلاة والسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس. وقوله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} والضمير في {لا يملكون} لأهل الموقف انتهى. وفيه بعض تلخيص. {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} الضمير في {قالوا} عائد على بعض اليهود حيث قالوا عزير ابن الله، وبعض النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله، وبعض مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله {لقد جئتم} أي قل لهم يا محمد {لقد جئتم} أو يكون التفاتاً خرج من الغيبة إلى الخطاب زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله والتعرض لسخطه وتنبيه على عظيم ما قالوا. وقرأ الجمهور {إداً} بكسر الهمزة وعليّ بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن بفتحها أي شيئاً أداً حذف المضاف وأقيم المصدر مقامه. وقرأ نافع والكسائي يكاد بالياء من تحت وكذا في الشورى وهي قراءة أبي حيوة والأعمش. وقرأ باقي السبعة بالتاء. وقرأ ينفطرن مضارع انفطر وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وابن عامر هنا وهي قراءة أبي بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي ويعقوب وأبي عبيد. وقرأ باقي السبعة {يتفطرن} مضارع تفطر والتي في الشورى قرأها أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء والنون وباقي السبعة بالياء والتاء والتشديد. وقرأ ابن مسعود يتصدعن وينبغي أن يجعل تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه، ولرواية الثقاة عنه كقراءة الجمهور. وقال الأخفش {تكاد} تريد وكذلك قوله {أكاد أخفيها} وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر: وكادت وكدت وتلك خير إرادة *** لو عاد من زمن الصبابة ما مضى ولا حجة في هذا البيت، والمعروف أن الكيدودة مقاربة الشيء وهذه الجمل عند الجمهور من باب الاستعارة لبشاعة هذا القول، أي هذا حقه لو فهمت الجمادات قدره وهذا مهيع للعرب. قال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع وقال آخر: ألم تر صدعاً في السماء مبيناً *** على ابن لبني الحارث بن هشام وقال الآخر: فأصبح بطن مكة مقشعرّاً *** كأن الأرض ليس بها هشام وقال آخر: بكى حارث الجولان من فقد ربه *** وحوران منه خاشع متضائل حارث الجولان: موضع. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن الله يقول: كدت أفعل هذه بالمسوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي ووقاري، وإني لا أعجل بالعقوبة كما قال {إن الله يمسك السموات والأرض} الآية. والثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة، وتهويلاً من فظاعتها، وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه. وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر انتهى. وقال ابن عباس إن هذا الكلام فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيماً لله تعالى. وقيل: المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة. وقيل: {تكاد السموات يتفطرن} أي تسقط عليهم {وتنشق الأرض} أي تخسف بهم {وتخر الجبال هدّاً} أي تنطبق عليهم. وقال أبو مسلم: تكاد تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول، وانتصب {هدّاً} عند النحاس على المصدر قال: لأن معنى {تخرّ} تنهد انتهى. وهذا على أن يكون {هداً} مصدراً لهد الحائط يهد بالكسر هديداً وهداً وهو فعل لازم. وقيل {هداً} مصدر في موضع الحال أي مهدودة، وهذا على أن يكون {هداً} مصدر هد الحائط إذا هدمه وهو فعل متعد، وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولاً له أي لأنها تهد، وأجاز الزمخشري في {أن دعوا} ثلاثة أوجه. قال أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه كقوله: على حالة لو أن في القوم حاتماً *** على جوده لضن بالماء حاتم وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه لجملتين، قال: ومنصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي {هداً} لأن دعوا علل الخرور بالهد، والهد بدعاء الولد للرحمن، وهذا فيه بعد لأن الظاهر أن {هداً} لا يكون مفعولاً بل مصدر من معنى {وتخر} أو في موضع الحال، قال: ومرفوعاً بأنه فاعل {هداً} أي هدها دعاء الولد للرحمن، وهذا فيه بعد لأن ظاهر {هداً} أن يكون مصدراً توكيدياً، والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيد لم يعمل بقياس إلاّ إن كان أمراً أو مستفهماً عنه، نحو ضربا زيداً، واضربا زيداً على خلاف فيه. وأما إن كان خبراً كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الرحمن فلا ينقاس بل ما جاء من ذلك هو نادر كقوله: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم *** أي وقف صحبي. وقال الحوفي وأبو البقاء {أن دعوا} في موضع نصب مفعول له، ولم يبينا العامل فيه. وقال أبو البقاء أيضاً: هو في موضع جر على تقدير اللام، قال: وفي موضع رفع أي الموجب لذلك دعاؤهم، ومعنى {دعوا} سموا وهي تتعدّى إلى اثنين حذف الأول منهما، والتقدير سموا معبودهم ولداً للرحمن أي بولد لأن دعا هذه تتعدى لاثنين، ويجوز دخول الباء على الثاني تقول: دعوت ولدي بزيد، أو دعوت ولدي زيداً. وقال الشاعر: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن *** أخاها ولم أرضع لها بلبان وقال آخر: ألا رب من يدعي نصيحاً وإن يغب *** تجده بغيب منك غير نصيح وقال الزمخشري: اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولداً، قال أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام: «من ادّعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر: إنّا بني نهشل لا ندعي لأب *** أي لا ننتسب إليه انتهى. وكون {دعوا} هنا بمعنى سموا هو قول الأكثرين. وقيل: {دعوا} بمعنى جعلوا. و{ينبغي} مطاوع لبغي بمعنى طلب، أي وما يتأتى له إتخاذ الولد لأن التوالد مستحيل والتبني لا يكون إلاّ فيما هو من جنس المتبنى، وليس له تعالى جنس و{ينبغي} ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا: أنبغى وقد عدّها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط و{من} موصولة بمعنى الذي أي ما كل الذي في السموات وكل تدخل على الذي لأنها تأتي للجنس كقول تعالى {والذي جاء بالصدق} ونحو: وكل الذي حملتنّي أتحمل *** وقال الزمخشري: {من} موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله: رب من أنضجت غيظاً صدره *** انتهى. والأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل. وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب إلاّ آتٍ بالتنوين {الرحمن} بالنصب والجمهور بالإضافة و{آتي} خبر {كل} وانتصب {عبداً} على الحال. وتكرر لفظ {الرحمن} تنبيهاً على أنه لا يستحق هذا الاسم غيره، إذ أصول النعم وفروعها منه ومن في السموات والأرض يشمل من اتخذوه معبوداً من الملائكة وعيسى وعزيراً بحكم ادعائهم صحة التوالد أو بحكم زعمهم ذلك فأشركوهم في العبادة إذ خدمة الأبناء خدمة الآباء، فأخبر تعالى أنه ما من معبود لهم في السموات أو في الأرض إلاّ يأتي الرحمن عبداً منقاداً لا يدعيّ لنفسه شيئاً مما نسبوه إليه. ثم ذكر تعالى أنه {أحصاهم} وأحاط بهم وحصرهم بالعدد، فلم يفته أحد منهم وانتصب {فرداً} على الحال أي منفرداً ليس معه أحد ممن جعلوه شريكاً، وخبر {كلهم آتيه} {فرداً} وكلّ إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفرداً على لفظ كل، فتقول: كلكم ذاهب، ويجوز أن يعود جمعاً مراعاة للمعنى فتقول: كلكم ذاهبون. وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الإتفاق على جواز الوجهين، وعلى الجمع جاء لفظ الزمخشري في تفسير هذه الآية في الكشاف {وكلهم} متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره، وقد خدش في ذلك أبو زيد السهيلي فقال: كل إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني إلى معرفة فلا يحسن إلاّ إفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول: كلكم ذاهب أي كل واحد منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح فإن قلت: في قوله {وكلهم آتيه} إنما هو حمل على اللفظ لأنه اسم مفرد قلنا: بل هو اسم للجمع واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول: القوم ذاهبون، ولا تقول: القوم ذاهب وإن كان لفظ القوم كلفظ المفرد، وإنما حسن كلكم ذاهب لأنهم يقولون كل واحد منكم ذاهب فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى انتهى. ويحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب، أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان. والسين في {سيجعل} للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا، وجيء بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة، وكانوا ممقوتين من الكفرة، فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإسلام وفشا. واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا على الإطلاق كما في الترمذي. قال: «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه، قال: فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض» قال الله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً} إلى آخر الحديث وقال: هذا حديث صحيح. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى أي إن الله تعالى لما أخبر عن إتيان كل من في السموات والأرض في حال العبودية والانفراد، أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم {وداً} وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله للعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه انتهى. وقال الزمخشري: وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وقال أيضاً: والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع مبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم انتهى. وقيل: في الكلام حذف والتقدير سيدخلهم دار كرامته ويجعل لهم {وداً} بسبب نزع الغل من صدورهم بخلاف الكفار، فإنهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً، وفي النار أيضاً يتبرأ بعضهم من بعض. وقرأ الجمهور {وداً} بضم الواو. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها. وقرأ جناح بن حبيش {وداً} بكسر الواو. قيل: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف كان اليهود والنصارى والمنافقون يحبونه، وكان لما هاجر من مكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ألقى الله لهم وداً في قلب النجاشي، وذكر النقاش أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب. وقال محمد بن الحنفية: لا تجد مؤمناً إلاّ وهو يحب علياً وأهل بيته انتهى. ومن غريب هذا ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ بن يوسف الأنصاري الشاطبي رحمه الله تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي: عدّي وتيم لا أحاول ذكرهم *** بسوء ولكني محب لهاشم وما تعتريني في عليّ ورهطه *** إذا ذكروا في الله لومة لائم يقولون ما بال النصارى تحبهم *** وأهل النهي من أعرب وأعاجم فقلت لهم إني لأحسب حبهم *** سرى في قلوب الخلق حتى البهائم وذكر أبو محمد بن حزم أن بغض عليّ من الكبائر. والضمير في {يسرناه} عائد على القرآن، أي أنزلناه عليك ميسراً سهلاً {بلسانك} أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين. {لتبشر به المتقين} أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم واللد جمع. وقال ابن عباس: {لداً} ظلمة، ومجاهد فجاراً، والحسن صماً، وأبو صالح عوجاً عن الحق، وقتادة ذوي جدل بالباطل آخذين في كل لديد بالمراء أي في كل جانب لفرط لجاجهم يريد أهل مكة. {وكم أهلكنا} تخويف لهم وإنذار بالإهلاك بالعذاب والضمير في قوله {قبلهم} عائد على {قوماً لداً} و{هل تحس} استفهام معناه النفي أي لا تحس. وقرأ الجمهور: {هل تحس} مضارع أحس. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني {تحس} بفتح التاء وضم الحاء. وقرئ {تحس} من حسه إذا شعر به ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة {أو تسمع} مضارع أسمعت مبنياً للمفعول. وقال ابن عباس: الركز الصوت الخفي. قال ابن زيد الحس. وقال الحسن: لما أتاهم عذابنا لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع. وقيل: المعنى ماتوا ونسي ذكرهم فلا يخبر عنهم مخبر.
{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} هذه السورة مكية بلا خلاف، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله عليّ. وقال الضحاك: صلّى عليه السلام هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن، فقالت قريش: ما أنزل عليه إلاّ ليشقى. وقال مقاتل: قال أبو جهل والنضر والمطعم: إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت. ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم أي بلغته وكان فيما علل به قوله {لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً} أكد ذلك بقوله {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى} والتذكرة هي البشارة والنذارة، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو: يس وألر وما أشبههما، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة. وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: معنى {طه} يا رجل. فقيل بالنبطية. وقيل بالحبشية. وقيل بالعبرانية. وقيل لغة يمنية في عك. وقيل في عكل. وقال الكلبي: لو قلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول {طه}. وقال السدّي معنى {طه} يا فلان. وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم: دعوت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت عليه أن يكون موائلاً وقول الآخر: إن السفاهة طه من خلائقكم *** لا بارك الله في القوم الملاعين وقيل هو اسم من أسماء الرسول. وقيل: من أسماء الله. وقال الزمخشري: ولعل عكاً تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به: إن السفاهة طه في خلائقكم *** لا قدس الله أخلاق الملاعين انتهى. وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه. وقيل: طا فعل أمر وأصله طأ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفاً وها مفعول وهو ضمير الأرض، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه. وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره {طه}. قيل: وأصله طأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بُني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل {طه}. وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد: طاوي. وقرأ طلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنياً للمفعول {القرآن} بالرفع. وقرأ الجمهور {ما أنزلنا عليك القرآن} ومعنى {لتشقى} لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله {لعلك باخع نفسك} والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل: أتعب من رائض مهر. وأشقى من رائض مهر. قال الزمخشري: أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة انتهى. وقيل: أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول. و{لتشقى} و{تذكرة} علة لقوله {ما أنزلنا} وتعدى في {لتشقى} باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير {ما أنزلنا} هو لله، وضمير {لتشقى} للرسول صلى الله عليه وسلم، ولما اتحد الفاعل في {أنزلنا} و{تذكرة} إذ هو مصدر ذكر، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافاً والجمهور يشترطونه. وقال الزمخشري: فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله {أن تحبط أعمالكم} قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في {واختار موسى قومه} وأما النصبة في {تذكرة} فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى. وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقاً عليه بل في ذلك خلاف. أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله؟ وقال ابن عطية: {إلا تذكرة} يصح أن ينصب على البدل من موضع {لتشقى} ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى. وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال: فإن قلت: هل يجوز أن يكون {تذكرة} بدلاً من محل {لتشقى}؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى. ويعني باختلاف الجنسين أن نصب {تذكرة} نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في {لتشقى} بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى {إنا أنزلنا} إليك {القرآن} لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و{ما أنزلنا عليك} هذا المتعب الشاق {إلاّ} ليكون {تذكرة} وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {تذكرة} حالاً ومفعولاً له {لمن يخشى} لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى. وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون {إلاّ تذكرة} بدل من محل {لتشقى} هو قول الزجاج. وقال النحاس: هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليست بشقاء. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون {تذكرة} بدلاً من {القرآن} ويكون {القرآن} هو {التذكرة} وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدراً أي لكن ذكرنا به {تذكرة}. قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو {لتشقى} ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى. والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح. وانتصاب {تنزيلاً} على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل {تنزيلاً ممن خلق}. وقال الزمخشري: في نصب {تنزيلاً} وجوه أن يكون بدلاً من {تذكرة} إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له، لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمراً، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى {ما أنزلنا} {إلاّ تذكرة} أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله {تذكرة لمن يخشى} تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى. والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة. وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل {تذكرة} و{تنزيلاً} حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس، وأيضاً فمدلول {تذكرة} ليس مدلول {تنزيلاً} ولا {تنزيلاً} بعض {تذكرة} فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها. وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة، وأما نصبه على المدح فبعيد، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة. وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمار هو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف. وفي قوله {ممن خلق} تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله {ممن خلق} التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون {أنزلنا} حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى. وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه. و{العلى} جمع العليا ووصف {السموات} بالعُلَى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى، والظاهر رفع {الرحمن} على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو {الرحمن}. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في {خلق} انتهى. وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه، و{الرحمن} لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و{خلق} صلة، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط. وأجاز الزمخشري أن يكون رفع {الرحمن} على الابتداء قال يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق. وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر. قال الزمخشري: صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلاّ بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلاّ الذي والتي فيجوز نعتهما، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون {الرحمن} صفة لمن فالأحسن أن يكون {الرحمن} بدلاً من من، وقد جرى {الرحمن} في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل. وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو {على العرش استوى} وعلى قراءة الرفع إن كان بدلاً كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر، فيكون {الرحمن} والجملة خبرين عن هو المضمر. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف. وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله {على العرش} ثم يقرأ {استوى له ما في السموات} على أن يكون فاعلاً لاستوى لا يصح إن شاء الله. ولما ذكر تعالى أنه اخترع السموات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى {له} ملك جميع {ما} حوت {السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى} أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب. وعن السدّي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وقيل: {ما تحت الثرى} ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيداً لقوله {وما في الأرض} إلاّ إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيداً. وقيل: المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير {له} علم {ما في السموات}. ولما ذكر تعالى أولاً إنشاء السموات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله: {وإن تجهر بالقول} للرسول ظاهر أو المراد أمته، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلاّ بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال {يعلم سركم وجهركم} والظاهر أن {أخفى} أفعل تفضيل أي {وأخفى} من السر. قال ابن عباس: {السر} ما تسره إلى غيرك، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء. وعن ابن عباس أيضاً {السر} ما أسره في نفسه، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وعن قتادة: قريب من هذا. وقال مجاهد: {السر} ما تخفيه من الناس {وأخفى} منه الوسوسة. وقال ابن زيد {السر} سر الخلائق {وأخفى} منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري. وقيل: {السر} العزيمة {وأخفى} منه ما لم يخطر على القلب، وذهب بعض السلف إلى أن قوله {وأخفى} هو فعل ماض لا أفعل تفضيل أي {يعلم} أسرار العباد {وأخفى} عنهم ما يعلمه هو كقوله {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه} وقوله {ولا يحيطون به علماً} قال ابن عطية: وهو ضعيف. وقال الزمخشري: وليس بذلك قال: فإن قلت: كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول} وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر انتهى. والجلالة مبتدأ و{لا إله إلاّ هو} الخبر و{له الأسماء الحسنى} خبر ثان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى؟ فقيل: هو {الله} و{الحسنى} تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلاّ منه، وذكروا أن هذه {الأسماء} هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» وذكرها الترمذي مسندة.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، كما قال تعالى {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} فقال تعالى: {وهل أتاك حديث موسى} وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي. وقيل: {هل} بمعنى قد أي قد {أتاك}، والظاهر خلاف هذا لأن السورة مكية. والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا. وقيل: إنه استفهام معناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى، ونحن الآن قاصّون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه عليه السلام لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته حامل فلا يدري أليلاً تضع أم نهاراً، فسار في البرية لا يعرف طرقها، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور. قيل: كان رجلاً غيوراً يصحب الرفقة ليلاً ويفارقهم نهاراً لئلا ترى امرأته، فأضل الطريق. قال وهب: ولد له ابن في الطريق ولما صلد زنده {رأى ناراً}. والظاهر أن {إذ} ظرف للحديث لأنه حدث. وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفاً لمضمر أي {ناراً} كان كيت وكيت، وأن تكون مفعولاً لأذكر {امكثوا} أي أقيموا في مكانكم، وخاطب امرأته وولديه والخادم. وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية {لأهله امكثوا} بضم الهاء وكذا في القصص والجمهور بكسرها {إني آنست} أي أحسست، والنار على بعد لا تحس إلاّ بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول {آنست} من فلان خيراً. وقال الزمخشري: الإيناس الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم. وقيل: هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع، وقال: لعل ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى. والظاهر أنه رأى نوراً حقيقة. وقال الماوردي: كانت عند موسى {ناراً} وكانت عند الله نوراً. قيل: وخيِّل له أنه نار. قيل: ولا يجوز هذا لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الانبياء عليهم الصلاة والسلام. ولفظة على ههنا على بابها من الاستعلاء، ومعناه إن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى: ويأت على النار الندى والمحلق *** وقال ابن الأنباري: على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء، وذكر الزجّاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء، وانتصب {هدى} على أنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا {هدى} أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق. وقيل: {هدى} في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق. والضمير في {أتاها} عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب قاله ابن عباس. وقيل: سمرة قاله عبد الله. وقيل: عوسج قاله وهب. وقيل: عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة، ووقف متحيراً وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و{نودي} وهو تكليم الله إياه. وقرأ الجمهور: {إني} بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين. و{أنا} مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: وأني بفتح الهمزة والظاهر أن التقدير بأني {أنا ربك}. وقال ابن عطية: على معنى لأجل {إني أنا ربك فاخلع نعليك} و{نودي} قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو عليّ: ناديت باسم ربيعة بن مكدم *** إن المنوّه باسمه الموثوق انتهى. وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقاً منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلاّ بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال: لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز قالوا: ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري لأنه ينافي التكليف، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع. وقيل: كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما. وفي الترمذي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبّة صوف وكمة صوف وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» قال: هذا حديث غريب، والكمة القلنسوة الصغيرة وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدّي ومقاتل والكلبي والضحاك. وقيل: كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما لبيان بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربته وروى أنه خلق نعليه وألقاهما من وراء الوادي. و{المقدس} المطهر و{طوى} اسم علم عليه فيكون بدلاً أو عطف بيان. وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منوناً. وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منوناً. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون. وقرأ عيس بن عمر والضحاك طاوى أذهب فمن نون فعلى تأويل المكان، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولاً عن فعل نحو زفر وقثم، أو أعجمياً أو على معنى البقعة، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة. وقال الحسن: {طوى} بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره، فكذلك الطوى على هذه القراءة. وقال قطرب {طوى} من الليل أي ساعة أي قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل، فلحق الوادي تقديس محدد أي {إنك بالواد المقدس} ليلاً. قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة. وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية {وأنا} بكسر الهمزة والألف بغير النون بلفظ الجمع دون معناه لأنه من خطاب الملوك اخترناك بالنون والألف عطفاً على {إني أنا ربك} لأنهم كسروا ذلك أيضاً، والجمهور {وأنا اخترتك} بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه. وقرأ أُبَيّ وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم {اخترتك} بتاء عطفاً على {إني أنا ربك} ومفعول {اخترتك} الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك. والظاهر أن {لما يوحى} من صلة استمع وما بمعنى الذي. وقال الزمخشري وغيره: {لما يوحى} للذي يوحى أو للوحي، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى. ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني. وقال أبو الفضل الجوهري: لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفاً. وقال وهب: أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع لما يحب الله وحذف الفاعل في {يوحى} للعلم به ويحسنه كونه فاصلة، فلو كان مبنياً للفاعل لم يكن فاصلة والموحى قوله {إني أنا الله} إلى آخره معناه وحّدني كقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون} إلى آخر الجمل جاء ذلك تبييناً وتفسيراً للإبهام في قوله {لما يوحى}. وقال المفسرون {فاعبدني} هنا وحدني كقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون} معناه ليوحدون، والأولى أن يكون {فاعبدني} لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالصلاة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكري أن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق، أو لأن تذكرني خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍ فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به كما قال {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} واللام على هذا القول مثلها في قوله {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ". قال الزمخشري: وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكرها». ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله، أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة انتهى. وفي الحديث بعد قوله: «فليصلها إذا ذكرها» قوله «إذ لا كفارة لها إلاّ ذلك» ثم قرأ {وأقم الصلاة لذكري}. وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء: للذكرى بلام التعريف وألف التأنيث، فالذكرى بمعنى التذكرة أي لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها. وقرأت فرقة لِذِكْرَى بألف التأنيث بغير لام التعريف. وقرأت فرقة: للذكر. ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء فقال {إن الساعة آتية} وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثواباً وإما عقاباً. وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب: خفيت الشيء أي أظهرته. وقال الشاعر: خفاهن من إيقانهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مجلب وقال آخر: فإن تدفنوا الداء لا نخفه *** وإن توقدوا الحرب لا نقعد ولام {لتجزَى} على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها {لتجزَى} كل نفس. وقرأ الجمهور {أُخْفِيها} بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك: أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة. وقال أبو علي: هذا من باب السلب ومعناه، أزيل عنها خفاءها وهو سترها، واللام على قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال {إن الساعة آتية} لنجزي انتهى، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا {أكاد أخفيها} جملة اعتراضية، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله. وقيل: {أخفيها} بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر. قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و{أكاد} من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال {أكاد أخفيها} حتى لا تظهر ألبتة، ولكن لا بد من ظهورها. وقالت فرقة {أكاد} بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم. قال أبو مسلم: ومن أمثالهم لا أفعل ذلك: ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف تقديره {أكاد} أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي: هممت ولم أفعل وكذت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله أي وكدت أفعل. وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس. وقالت فرقة: معناه {أكاد أخفيها} من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس. ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي: من تلقائي ومن عندي. وقالت فرقة {أكاد} زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها، وروي هذا المعنى عن ابن جبير، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى {لم يكد يراها} وبقول الشاعر وهو زيد الخيل: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما إن يكاد قرنه يتنفس وبقول الآخر: وأن لا ألوم النفس مما أصابني *** وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح ولا حجة في شيء من هذا. وقال الزمخشري: {أكاد أخفيها} فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه {أكاد أخفيها} من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غزهم منه أن في مصحف أبي {أكاد أخفيها} من نفسي وفي بعض المصاحف {أكاد أخفيها} من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى. ورويت هذه الزيادة أيضاً عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه. وفي مصحف عبد الله {أكاد أخفيها} من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كذت أخفيه من نفسي، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر: *** أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر *** وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والضمير في {أخفيها} عائد على {الساعة} و{الساعة} يوم القيامة بلا خلاف، والسعي هنا العمل. والظاهر أن الضمير في {عنها} و{بها} عائد على الساعة. وقيل: على الصلاة. وقيل {عنها} عن الصلاة و{بها} أي بالساعة، وأبعد جداً من ذهب إلى أن الضمير في {عنها} يعود على ما تقدم من كلمة {لا إله إلاّ أنا فاعبدني}. والظاهر أن الخطاب في {فلا يصدنك} لموسى عليه السلام، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة، فينبغي أن يكون لفظاً وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لفظاً ولأمته معنى. وقال الزمخشري: فإن قلت: العبارة أنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني: أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا. المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه {فتردى} يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى. وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء. {وما تلك بيمينك يا موسى} هو تقرير مضمنه التنبيه، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة و{ما} استفهام مبتدأ و{تلك} خبره و{يمينك} في موضع الحال كقوله {وهذا بعلي شيخاً} والعامل اسم الإشارة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون {تلك} أسماً موصولاً صلته بيمينك، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا: يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاً حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل: وما التي بيمينك؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفاً كأنه قيل: وما التي استقرت بيمينك؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم. {قال هي عصاي}. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصَيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم. وقرأ الحسن عَصَايِ بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضاً وأبي عمرو معاً، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين. وعن أبي إسحاق والجحدري عَصَايْ بسكون الياء. {أتوكأ عليها} أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، وهذا زيادة في الجواب كما جاء «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر». وحكمة زيادة موسى عليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر: وأملي عتاباً يستطاب فليتني *** أطلت ذنوباً كي يطول عتابه وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلاً في قوله {أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي} وإجمالاً في قوله {ولي فيها مآرب أخرى}. وقيل: {أتوكأ عليها} جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال {هي عصاي} قال له تعالى فما تصنع بها؟ قال: {أتوكأ عليها} الآية. وقيل: سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله {وما تلك} وبقوله {بيمينك} عما يملكه، فأجابه عن {وما تلك}؟ بقوله {هي عصاي} وعن قوله {بيمينك} بقوله {أتوكأ عليها وأهش} إلى آخره انتهى. وفي التحقيق ليس قوله {بيمينك} بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله {أتوكأ عليها} ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله {وأهش}. وقرأ الجمهور {وَأَهُشُّ} بضم الهاء والشين المعجمة، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق. قال أبو الفضل: ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما، يقال منه: هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى. وقرأ الحسن وعكرمة: وأَهُسُّ بضم الهاء والسين غير معجمة، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأَهُسُّ بضم الهمزة من أهس رباعياً وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأَهُشُّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال: ولا أعرف وجهه إلاّ أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي. فيكون كتخفيف ظلت ونحوه. وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ {وأهش} بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعياً قال: وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال ما هي إلاّ عصا لا تنفع إلاّ منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة. كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى. وقرأت فرقة {غنمي} بسكون النون وفرقة عليّ غنمي بإيقاع الفعل على الغنم. والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب. وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعدوا وهذه العصا أخذها من بيت عصى الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع، وقيل: اثنتا عشرة بذراع موسى عليه السلام وعامل المآرب وإن كان جمعاً معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعياً للفواصل وهي جائز في غير الفواصل. وكان أجود وأحسن في الفواصل. وقرأ الزهري وشيبة: مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين. {قال ألقها} الظاهر أن القائل هو الله تعالى، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى {ألقها} اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر: فألقت عصاها واستقر بها النوى *** وإذا هي التي للمفاجأة، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله {فلما رآها تهتز كأنها جان} وبين كونها ثعباناً لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعباناً أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها. قيل: كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فماً وبين لحييها أربعون ذراعاً. وعن ابن عباس: انقلبت ثعباناً تبتلع الصخر والشجر والمحجن عنقاً وعيناها تتقدان، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول. ومعنى {تسعى} تنتقل وتمشي بسرعة، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبراً ولم يعقب. وقيل: إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل: لما قال له الله {لا تخف} بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة، يقال: سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأولين. وقال الشاعر: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها *** فأول راض سيرة من يسيرها واختلفوا في إعراب {سيرتها} فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل {واختار موسى قومه} يعني إلى {سيرتها} قال: ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول {سنعيدها}. وقال هذا الثاني أبو البقاء قال: بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها. وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب على الظرف أي {سنعيدها} في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى. و{سيرتها} وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّ بواسطة، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون مفعولاً من عاده بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير: وعادك أن تلاقيها عداء *** فيتعدى إلى مفعولين انتهى. وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي. قال: ووجه ثالث حسن وهو أن يكون {سنعيدها} مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب {سيرتها} بفعل مضمر أي تسير {سيرتها الأولى} يعني {سنعيدها} سائرة {سيرتها الأولى} حيث كنت تتوكأ عليها، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى. والجناح حقيقة في الطائر والملك، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل. وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة، وسمي جناح الطائر لأنه يجنح به عند الطيران، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد. والمراد إلى جنبك تحت العضد. ولهذا قال {تخرج} فلو لم يكن دخول لم يكن خروج كما قال في الآية الأخرى {وأدخل يدك في جيبك تخرج} وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير {واضمم يدك إلى جناحك} تنضم وأخرجها {تخرج} فحذف من الأول وأبقى مقابله، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو {اضمم} لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى. {تخرج بيضاء من غير سوء} قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس، وكان آدم اللون وانتصب {بيضاء} على الحال والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه. وقوله {من غير سوء} متعلق ببيضاء كأنه قال ابيضت {من غير سوء}. وقال الحوفي: {من غير سوء} في موضع النعت لبيضاء، والعامل فيه الاستقرار انتهى. ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله {بيضاء} لأوهم أن ذلك من برص أو بهق. وانتصب {آية} على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباً على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون {آية} بدلاً من {بيضاء} وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في {بيضاء} أي تبيض {آية}. وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها {آية} أو آتيناك {آية}. واللام في {لنريك} قال الحوفي متعلقة باضمم، ويجوز أن تتعلق بتخرج. وقال أبو البقاء: تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه {آية} أي دللنا بها {لنريك}. وقال الزمخشري: {لنريك} أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض {آياتنا الكبرى} أو {لنريك} بهما {الكبرى} من {آياتنا} أو {لنريك من آياتنا الكبرى} فعلنا ذلك، ونعني أنه جاز أن يكون مفعول {لنريك} الثاني {الكبرى} أو يكون {من آياتنا} في موضع المفعول الثاني. وتكون {الكبرى} صفة لآياتنا على حد {الأسماء الحسنى} و{مآرب أخرى} بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. والذي نختاره أن يكون {من آياتنا} في موضع المفعول الثاني، و{الكبرى} صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه {الكبرى}. وإذا جعلت {الكبرى} مفعولاً لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل، وأيضاً إذا جعلت {الكبرى} مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلاً منهما فيها معنى التفضيل. ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد {لنريك من آياتنا الكبرى} لأنه جعل {الكبرى} مفعولاً ثانياً {لنريك} وجعل ذلك راجعاً إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلاّ تغيير اللون، وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مراراً فكانت أعظم من اليد. ولما أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولاً من عنده تعالى وعلل حكمة الذهاب إليه بقوله {إنه طغى} وخص فرعون وإن كان مبعوثاً إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعّي الإلهية وقومه تباعه. قال وهب بن منبه: قال الله لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي، وإن معك يدي ونصري، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. وقل له قولاً ليناً فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلاّ بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام. وقيل: أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمرك ربك.
|